السبت، 27 أبريل 2013


رياضة النفس وتهذيب الأخلاق
عند الإمام الغزالي
  
محاور البحث






المقدمة

المحور الأول: بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق .



المحور الثاني : معنى الخلق وثمراته وبيان أركانه وفروعه‏ .

- ثمرات الخلق .
- معنى الخلق .
- تعريف الخلق .
- الأركان الأربعة للخلق .
- الاعتدال في أصول الأخلاق الأربعة .
- آثار أصول الأخلاق .


المحور الثالث: بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة .


المحور الرابع : بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة .



التوصيات والنتائج .

الخاتمة .



المقدمة

إن حاجة دارس التنمية البشرية الطامح في التصدر لمشهد التدريب والمهتم بالتربية – حاجته – إلى رياضة النفس لا تقل أهمية عن حاجته إلى الأساليب الحديثة في التدريب والتواصل، إذ الحياة جميعا – لاسيما حلقات التدريب – فيها من التوجيه والتقييم وتقبّل الآخر ما يجعل من رياضة النفس في امتصاص كل ذلك والتعامل معه حاجة ملحة لكل مدرب ومربي .

قال تعالى مخاطبا عبده ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام :
" وإنك لعلى خلق عظيم " .
وقال النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ..
كما أخبرنا النبي الكريم أن الأحسن أخلاقا في الدنيا هو الأقرب منزلة من النبي في الجنة ..
ومن هنا جاءت أهمية هذا المبحث الصغير في وريقاته الكبير في معانيه.

وقد كان من دواعي سرورنا أن يتطرق مساق الصحة النفسية في جزئه الثاني إلى نبذة من أراء الإمام الجليل أبو حامد الغزالي خاصة أنه من العلماء الذين أسهموا في الكتابة عن النفس ومعرفتها في كتابه "معارج القدس في مدارج معرفة النفس" والذي أحصى فيه عدد مرات ذكر كلمة النفس في القرآن الكريم وحصرها في مائتين و ثمان و تسعين موضعا والذي عرف من خلالها أحوال النفس وكيفية تهذيبها و ..الخ .

وقد عني الإمام أبو حامد الغزالي عناية عظيمة بتهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وأفرد فيها كتابا صار علما بين كتب التزكية والأخلاق وهو كتاب
( إحياء علوم الدين ) فكان هو المرجع الرئيسي لهذا البحث مع اطلاعنا لآراء الكتاب والمؤلفين حوله .

فهذا ينبوع علم فلننهل منه ولو كان شيئا قليلا فإنك لا تدري أين تكون البركة .
ونسأل الله أن يكون هذا العمل القليل ثقيل في الميزان بالإخلاص لله وحده وخير مما نخطه بالبنان أن نمشي بالخلق الحسن بين الأنام .
                                   

                                                                 منى القاسمي



المحور الأول

بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق


قال الله تعالى لنبيه وحبيبه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه ‏"‏ وإنك لعلى خلق عظيم ‏"

سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ‏"‏
ثم قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ‏"‏ .

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق .

وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقال‏:‏ يا رسول الله ما الدين قال ‏"‏ حسن الخلق ‏"‏ فأتاه من قبل يمينه فقال‏:‏ يا رسول الله ما الدين قال ‏"‏ حسن الخلق ‏"‏ ثم أتاه من قبل شماله فقال‏:‏ ما الدين فقال ‏"‏ حسن الخلق ‏"‏ ثم أتاه من ورائه فقال يا رسول الله ما الدين فالتفت إليه وقال ‏"‏ أما تفقه هو أن لا تغضب ‏" .

وقال الفضيل قيل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال ‏"‏ لا خير فيها هي من أهل النار ‏"‏

‏وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً " .

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في افتتاح الصلاة ‏"‏ اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ‏"‏ .

وعن أنس قال‏:‏ قالت أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلون الجنة لأيهما هي تكون قال ‏"‏ لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا . يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة " .

 وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سوء الخلق ذنب لا يغفر وسوء الظن خطيئة تفوح" .

وسئل ابن عباس‏:‏ ما الكرم ؟ فقال‏:‏ هو ما بين الله في كتابه العزيز ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏ قيل فما الحسب ؟ قال‏:‏ أحسنكم خلقاً أفضلكم حسباً‏.‏

هذه طائفة من أحاديث النبي الكريم في مدح حسن الخلق وذم قبيحها ليكون حافزا ودافعا لنا نحو المزيد من تحسين أخلاقنا وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .


 
  
 
المحور الثاني :

معنى الخلق وثمراته وبيان أركانه وفروعه‏.


ثمرات الخلق :

اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضراً في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب .

وذلك كقول الحسن‏:‏ حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى‏.‏

وقال علي رضي الله عنه‏ :"حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال‏" .‏

وقال الحسين بن منصور : هو ألا يؤثر فيك جفاء الخلق ، بعد مطالعتك للحق .

وقال أبو سعيد الخراز‏:‏ هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى‏.‏

فهذا وأمثاله كثير وهو تعرض لثمرات حسن الخلق لا لنفسه ثم ليس هو محيطاً بجميع الثمرات أيضاً‏.‏



معنى الخلق :

وكشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة‏.‏

فنقول‏:‏ الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معاً يقال‏ :‏ فلان حسن الخلق والخلق - أي حسن الباطن والظاهر - فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة ويراد بالخُلق الصورة الباطنة‏.‏

فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر‏.‏

ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى ‏"‏ إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ‏"‏ فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح إلى رب العالمين‏ .‏
والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد .


تعريف الخلق :

فالخُلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً‏.‏

وإنما قلنا إنها هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ‏.‏

وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاءوالحلم‏.‏

فههنا أربعة أمور :

أحدها‏:‏ فعل الجميل والقبيح‏.‏

والثاني‏:‏ القدرة عليهما‏.‏

والثالث‏:‏ المعرفة بهما‏.‏

والرابع : هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين ويتيسر عليها أحد الأمرين إما الحسن وإما القبيح‏.‏

وليس الخلق عبارة عن الفعل فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء وليس هو عبارة عن القوة لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد‏.‏

وكل إنسان خلق بالفطرة  قادر على الإعطاء والإمساك وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد‏.‏

بل هو عبارة عن المعنى الرابع وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل‏.‏

فالخلق إذن عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة‏.‏


الأركان الأربعة للخلق :


وكما أن حسن الصورة الظاهرة  مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق‏ .‏

فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو‏:‏ قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العدل بين هذه القوى الثلاثة‏.‏

أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة - وهي التي قال الله فيها ‏"‏ ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً ‏"‏‏.‏

وأما قوة الغضب‏:‏ فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة
وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة أعني إشارة العقل والشرع‏ . ‏

وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع‏.‏

فالعقل مثاله مثال الناصح المشير‏.‏

وقوة العدل هي القدرة ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل‏.‏

والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس‏.‏

والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضاً مؤدباً وتارة يكون جموحاً‏.‏


الاعتدال في أصول الأخلاق الأربعة :


فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً‏.‏

ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض‏.‏

وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً‏.‏

وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً‏.‏

والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذ فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور‏.‏

وأما حسن قوة العلم واعتداله فيعبر عنه بالحكمة ويسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجريرة ويسمى تفريطها بلهاً .

فإذن أمهات الأخلاق وأصولها أربعة‏:‏ الحكمة والشجاعة والعفة والعدل‏.‏
ومعانيها كالتالي :

ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية‏.‏

ونعني بالعدل حالة للنفس و بها قوة الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة وتضبطهما في الاسترسال والانقباض ‏.‏

ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها‏.‏

ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع‏.‏

فمن اعتدل في هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها‏.‏

آثار أصول الأخلاق :

خلق الحكمة ‏:‏ يحصل منه حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس‏.‏

ومن إفراطها‏:‏ تصدر الجريرة والمكر والخداع والدهاء‏.‏

ومن تفريطها‏:‏ يصدر البله والغمارة والحمق والجنون - وأعني بالغمارة قلة الدربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء‏.‏
والفرق بين الحمق والجنون‏:‏ أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له رؤية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً .

وأما خلق الشجاعة‏ :‏ فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة‏.‏

وأما إفراطها وهو التهور‏:‏ فيصدر منه الصلف والبذخ والاستشاطة والتكبر والعجب‏.‏

وأما تفريطها‏:‏ فيصدر منه المهانة .والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب‏.‏

وأما خلق العفة‏ :‏ فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع‏.‏

وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط‏:‏ فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك‏.‏

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة‏:‏ وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل‏.‏

والباقي فروعها‏.‏

ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه‏.‏

فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال‏.‏

ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين .

وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى ‏"‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ‏"‏ فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين وهو ثمرة العقل‏.‏

ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة‏.‏

والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال‏.‏

فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال ‏"‏ أشداء على الكفار رحماء بينهم ‏"‏ إشارة إلى أن للشدة موضعاً وللرحمة موضعاً فليس الكمال في الشدة بكل حال ولا في الرحمة بكل حال‏.‏

فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه وبيان أركانه وثمراته وفروعه‏.‏





المحور الثالث

بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة


اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير‏.‏
فنقول : لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق‏.‏
وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى‏.‏

نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ولاختلافها سببان‏ :

أحدهما‏:‏ قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيير قوة الشهوة فإنها أقدم وجوداً إذ الصبي في مبدأ الفطرة تخلق له الشهوة ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز‏.‏

والسبب الثاني‏:‏ أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه على أربع مراتب ‏"‏ الأولى ‏"‏ وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات فهذا سريع القبول للعلاج جداً فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان‏.‏

‏"‏ والثانية ‏"‏ أن يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه إذ عليه قلع ما رشه في نفسه أولاً من كثرة الاعتياد للفساد والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم‏.‏

‏"‏ والثالثة ‏"‏ أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور وذلك لتضاعف أسباب الضلال‏.‏

‏"‏ والرابعة ‏"‏ أن يكون مع نشأته على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره وهذا هو أصعب المراتب‏.‏

وفي مثله قيل‏:‏ ومن العناء رياضة الهرم ومن التعذيب تهذيب الذيب‏.‏

والأول‏:‏ من هؤلاء جاهل فقط‏.‏

والثاني‏:‏ جاهل وضال‏.‏

والثالث‏:‏ جاهل وضال وفاسق‏.‏

والرابع‏:‏ جاهل وضال وفاسق وشرير‏.‏

وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به‏:‏ وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائرهذه الأخلاق فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات‏!‏ فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك‏.‏

ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك عن إمساك المال‏.‏

وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط‏.‏

والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً‏.‏

وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً ومع قوته منقاداً للعقل‏.‏

ولذلك قال الله تعالى ‏"‏ أشداء على الكفار رحماء بينهم ‏"‏ وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد‏.‏

وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك إذ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر‏.‏

وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ولكن لا يقول إلا حقاً فكان عليه السلام لا يخرجه غضب عن الحق وقال تعالى ‏"‏ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ‏"‏ ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن وهو المراد بتغيير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها فيقدم على الانبساط إلى الفواحش‏.‏

وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال فدل أن ذلك ممكن والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعاً وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير‏.‏

وقد أثنى الله تعالى عليه فقال ‏"‏ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ‏"‏ وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود قال الله تعالى ‏"‏ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ‏"‏ وقال في الغضب ‏"‏ أشداء على الكفار رحماء بينهم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم‏.‏

قال الله تعالى ‏"‏ إلا من أتى الله بقلب سليم ‏"‏ والبخل من عوارض الدنيا والتبذير أيضاً من عوارض الدنيا وشرط القلب أن يكون سليماً منهما أي لا يكون ملتفتاً إلى المال ولا يكون حريصاً على إنفاقه ولا على إمساكه فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان كمال القلب أن يصفوا عن الوصفين جميعاً‏.‏

وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو وسط بينهما فكأنه خال عن الوصفين‏.‏

فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير‏.‏

والشجاعة بين الجبن والتهور‏.‏

والعفة بين الشره والجمود‏.‏

وكذلك سائر الأخلاق فكلا طرفي الأمور ذميم هذا هو المطلوب وهو ممكن‏.‏


  
  
المحور الرابع

بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة


إن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضا وهذا الاعتدال يحصل على وجهين :

أحدهما : بجود إلهي وكمال فطري يحيث يولد الإنسان كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة والغضب بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع فيصير عالما بغير تعليم وهذا مثل سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين .

والوجه الثاني : اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب .
مثال : من أراد أن يكون جوادا كريما فعليه أن يتكلف بذل المال ويواظب على البذل مجاهدا نفسه حتى يصير الجود طبعا له ويتيسر عليه حتى يصل الى الغاية وهو أن يستلذ بفعل الجود لأن السخي الجواد هو الذي يستلذ ببذل المال ولا يدفعه وهو كاره ببذله .


وجميع الأخلاق المحمودة تحصل بهذا الطريق . ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس مالم تتعود جميع العادات الحسنة وتترك جميع الأفعال السيئة وما لم تواظب عليها مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها . قال صلى الله عليه وسلم : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " .




ثم لايكفي في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل .

ولا يتأكد تأثير العبادة في القلب إلا بكثرة المواظبة على العبادات . ومن يطلب تزكية نفسه لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم منها بعصيان يوم ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها ثم تتداعى قليلا قليلا حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأسا فيفوتها .


وتتحصل الأخلاق الحسنة إضافة إلى الطبع والفطرة وإلى الاعتياد والمجاهدة فإنها تتحصل بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم الصحبة الصالحة .



توصيات ونتائج البحث :


1-  العناية البالغة بتذكير الناس بأهمية الأخلاق الحسنة في ديننا فقد جاء نبينا ليتمم مكارم الأخلاق فمن حقق مكارم الأخلاق في نفسه فقد تحقق له إيمانه بعد أداء الأركان الخمسة . وقد دعا جميع الأنبياء والرسل إلى رياضة الأخلاق و تزكية النفوس .


2- حث الأبناء على قراءة السيرة النبوية الشريفة وسيرة الصحابة الكرام وكتب الأخلاق وتزكية النفوس وتقديمها للأبناء بطريقة مشوقة .


3- الحديث عن مكارم الأخلاق في مجالسنا ومساجدنا و مدح أصحابها وتقديم قدوات عملية للناس خاصة عندما تعترضهم المواقف الصعبة .


4- التوجيه للعناية بأمهات وأصول الأخلاق الأربعة وهي العفة والحكمة والشجاعة و العدل دون إفراط ولا تفريط .


5- واظب على ممارسة الخلق الحسن وجاهد نفسك حتى تصل إلى اللذة بفعله فإذا تيسر عليك ولم تتكلفه فاعلم أنه صار خلقا لك فهنيء نفسك بنجاحك .


الخاتمة



لاشك أن تزكية النفس منية كل مؤمن حريص على أن يبلغ الدرجات العلا عند رب كريم .
لذا فإن حاجة المجتمع المسلم لتذكيره بمكانة الأخلاق في دينه وعاقبتها في آخرته لهو مما يندرج تحت قول النبي الكريم " بلغوا عني ولو آية " وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولرسوله وللمؤمنين " بما معناه .

خاصة وأن هناك بعض المعتقدات الشعبية التي تعيق تحسين الأخلاق وصيغت على هيئة أمثال شعبية منها المثل الخليجي ( بو طبيع ما يجوز عن طبعه ولو قصو صبعه ) وغيرها مما يوجد في كل بلد وقطر .

فكان لابد أن نوضح أن دعوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - جاءت لتتمم مكارم الأخلاق فتؤكد الحسن وتنبذ السيء ولا يمكن أن تستقيم دعوات الأنبياء مع أمثال يائسة ورثناها . فلابد من تحريك الهمم لنحقق الدين اقتداء بالأنبياء والمرسلين والصحابة من بعدهم والتابعين بإحسان إلى يوم الدين .

فإن المسلمين الأوائل فتحوا البلدان بأخلاقهم قبل سيوفهم واسألوا التاريخ عن عجائب أخلاق آبائنا وأجدادنا ! أين ذهبت ؟!
هل دفنت معهم في قبورهم ؟!

إن الفوز بمكارم الأخلاق لا يأتي صدفة إنما هو وليد الهمة والإرادة والمواظبة والمثابرة مع مجاهدة النفس حتى تبلغ النفس كمال لذتها في هذا الخلق الحسن فيصير طبعا متيسرا لا تكلف فيه .


هذه دعوة لنفسي و لأخوتي في الدين لمحاسبة النفس في أصول الأخلاق الأربعة : الحكمة والعفة والشجاعة والعدل كم حققنا منها وكم فرطنا ؟! لنعدل المسار !
ونهذب اخلاقنا ونزكي أنفسنا كما أمرنا الله تعالى " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " .

والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي الخلق
القويم .  
                                    
                                                   والله ولي التوفيق
  

المراجع


- كتب :
كتاب إحياء علوم الدين – الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي – تصحيح د. عبد المعطي أمين قلعجي – دار صادر – بيروت – ( المجلد الثالث) – كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب وهو الكتاب الثاني من ربع المهلكات .

 المواقع الالكترونية التالية :

1-  المصدر: منتديات ابوشمس - من قسم: وريقآتٌ منشورة
 رياضة النفس وتهذيب الاخلاق ... احياء علوم الدين... للغزالى


2- مركز ابي الحسن الاشعري للدراسات والبحوث العقدية
المملكة المغربية - الرابطة المحمدية للعلماء
مفهوم النفس وأدلة وجودها عند الإمام الغزالي قراءة في كتابه"معارج القدس في مدارج معرفة النفس"[1]



 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق